04 أكتوبر 2009

أبو الفيز فى باريز - ( 1) بداية الرحلة : مدينة مارسيليا فى جنوب فرنسا





 لم يكن سفرى الى باريس فى مطلع عام 1980 إلا رغبة فى تحقيق الذات بعد أن فشلت فى طلب يد ( بنت الجيران ) حيث كان الرد قاسياً وعنيفاً لم أتحمل تبعاته وآثارة فقد كان سبب الرفض المباشر هو عدم التكافؤ فى المستوى الإجتماعى فأنا من أسرة فقيرة وهم من اسرة ثرية تمتلك الكثير من الخيرات .. لم تكن حدود العلاقة بينى وبين بنت الجيران تسمح بالتمرد على التقاليد لا من جهتى ولا من جهتها فقد نشأنا فى مجتمع محافظ له قوانينة الخاصة ,كما لا تملك هى حق الإعتراض على قرار الوالد الجائر ولا حتى كسب عطف الأم للتأثير على الوالد بمراجعة القرار فلا حول لها ولا قوة . إرادة فولازية دفعتنى الى إثبات الذات أو بتعبير آخر الرغبة فى الإنتقام لنفسى من هذا المتسلط المغرور الذى بنى ثروته من عرق الفلاحين بأبخس الأسعار .. كان السفر الى اوروبا مغامرة يشوبها الخوف من المجهول سيما وأننى سأخلع نفسى من وطن لم أعرف فى أرجائه إلا بلدتى ( الزقازيق ) وجذء محدود من ( القاهرة ) حيث كانت جامعتى التى تخرجت منها , أما غير ذلك من أماكن فإن العبد لله لم يكن يعلم منها الكثير بحسبانى قروياً لم تتح له فرص الإنغماس فى مجتمع المدينة ومفاتنها التى تسلب العقل .. أهكذا أنتقل فجأة وفى مجرد ساعات الى شوارع باريس وأنا الذى أجهل حتى شوارع القاهرة والأسكندرية وغيرها من محافظات مصر ؟ حقاً كانت التجربة - كما قلت - مغامرة لكن مغامرة تساندها إرادة كان من الصعب أن تنمحى من ذاكرتى كلما قفز الى خاطرى موقف الرجل الذى نوهت عنه ..
كانت قيمة التذكرة حينئذ على خطوط (إير فرانس ) ذهاباً وإياباً فقط (220 ) جنيه مصرى , ولم يكن هذا المبلغ بالقليل الأمر الذى دعانى الى جمعه بطرق مختلفة كان من ضمنها الأقتراض ,, أعددت العدة للسفر بعد ترجمة جميع مستنداتى وأوراقى الى اللغة الفرنسية وبعد توثيقها من الجهات المختصة وتوكلت على الله تعالى وبدأت الطريق .
ميناء مرسيليا البحرى

هبطت الطائرة فى مطار ( مرسيليا ) وهى مدينة تمثل أهم موانىء فرنسا البحرية ( الصورة المرفقة أعلاة )..... لم تكن لى وجهة محددة سوى ( رسالة ) من صديق وزميل مصرى موجهة الى أحد المصريين بفرنسا ( فى مارسيليا) مضمونها ( الأهتمام بحامل الرسالة ) .. بحثت عنة بصعوبة بالغة فى العنوان المسجل على الرسالة فأخبرنى أحد الأخوة ( المغاربة ) بأنه يعرف الشخص المقصود وبأنه عادة يعود آخر الليل الى منزلة .. لم أجد بداً من أن أنتظرة سيما وأنا لا أعرف غيرة فى مدينة شاسعة .. كان الليل قد بدأ الزحف على المدينة فجلست على أحد المقاعد فى حديقة عامة يعلوه مصباح كهربائى وأخذت فى فتح حقيبتى الصغيرة لأقتات ببعض ما أعدته لى أمى العزيزة من بعض الأغذية المجففة .. تناولت حمامتين مشويتين وبعد أن فرغت من الأكل لم يطاوعنى قلبى أن ألقى بعظام الحمامتين فى سلة المهملات لكونهما من رائحة أمى .. تساقطت بعض الدمعات من عينى ثم لففت العظام فى كيس بلاستيك وأودعته الحقيبة .. ولكى لا أمل من الانتظار فقد أخرجت جريدة ( الأهرام المصرية ) من الحقيبة لإيهام نفسى بأنى مازلت فى حالة إتصال معنوى بمصر .. المكان حولى يعج بالأطفال الصغار وكأنهم أشبه بالملائكة , يلعبون فى براءة تامة .. وحين إتشح ليل المدينة بالسواد القاتم قمت من مقعدى وتوجهت الى الصديق الذى لم تسبقنى به أى معرفة , وحين وصلت الى بيته وجدته مضاءاً فحمدت الله على وصولة .. طرقت الباب فإذا بى أجد شخصاً يبدو من هيئته أنه فى حالة تناول طعام .. عرفته بنفسى وبأنى حامل لرساله من أحد أصدقائه فى مصر فقال لى تفضل بالدخول وهو مولينى ظهرة وأنا أتبعه الى الداخل .. لم أتسرع بالحكم على الرجل بقلة الذوق ولكن جلست ثم ناولته الرسالة .. كان يقرؤها وهو مستمر فى تناول الطعام دون أن يدعونى الى مشاركته .. وجدت نفسى فى حالة إحتقان داخلى فليس هذا المسلك من طبائعنا كمصريين .. ثم وجدته فجأة يقول :
- هو يوسف فاكرتى وزير العمل فى فرنسا ؟
فى تلك اللحظة لم أتمالك غيظى المكتوم سلفاً فقلت له بغضب واضح :
- صديق طلب منى توصيل رسالة الى صديقة فى فرنسا .. هل سعى اليك الى توظيفى ؟ .. يبدوا أننى أخطأت الشخص والعنوان ..
خطفت الرسالة من يده وقمت بتمزيقها أرباً ورميتها على منضدة الطعام التى يأكل عليها وخرجت من البيت لاعناً أشباه هذا الرجل .
خرجت الى قارعة الطريق .. لا أدرى أين اتوجه .. المكان الذى أنا فيه قرية صغيرة تسمى ( مولى جيس) لايوجد بها فنادق أو بانسيونات كما لايوجد بها حتى مواصلات عامة ( مترو أو تاكسى ) علاوة على أنه لا أحد من قاطنى البلدة سيبدى إهتماماً برجل غريب فالكل لديه بيته ومزرعته وسياراته الخاصة .. كان موقفاً لا أحسد عليه ولم تفتر عزيمتى أو يتسرب الى نفسى خوف او قلق .. عدت مرة أخرى الى مقعدى فى الحديقة عازماً أن أقضى بقية الليل عليها حتى مطلع الصبح .. لم يطل بى الوقت كثيراً وأنا فى تلك الحالة فقد مرت بى جماعة من العرب عرفت بعد ئذ أنهم ( مغاربة ) فألقوا على السلام وسألونى إن كان لدى حاجة يقضونها لى فشرحت لهم الموقف كاملاً فسمعت منهم عبارات إستياء وغضب من موقف أخينا المصرى .. إصطحبونى معهم الى حيث بيتهم وأكرموا ضيافتى ونمت فى فراشهم حتى الصباح .. شكرتهم على صنيعهم وتوجهت الى محطة القطار قاصدا باريس
.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

مرت سنوات عمرى ببيت رجل شرقى الطباع ....دافئ القلب...حنون لا يعرف لقسوة القلب طريق...

والدى العزيز...
مع كل كلمه بسطور ذكرياتك أتلهف شوقا إلى معرفه المزيد عن رجل بداخلك يؤسفنى أننى لم يسبق لى الحديت إليه


سطور ذكرياتك تستحوذ دموع عيناى
وتجعلنى أزداد فخرا بأننى إبنة لرجل يحمل بداخله خليط تواضع وكفاح وقوة وحنان
ويملك أقوى كلمة ويجمع كل معانيها براحة يديه
(أب حقيقى)

أطال الله بعمرك والدى وجعلك دائما نورا لطريق حياتى
أحبك