21 نوفمبر 2009

أبوالفيز فى باريز ( الحلقة 4 ) جامعة السربون والبحث عن عمل واقامة :



مقدمة :   قد لايعنى أحداً - سواى وقلة من الناس ومن ضمنهم أولادى الذين فاجأتهم هذه الحلقات - هذا السرد المطول من الاحداث التى عشتها وبكامل تفاصيلها خلال حقبة من العمر كانت تمثل بذاتها حجر الاساس فى بناء حياتى الخاصة حيث سبق لى القول - فى مقام سابق من الحلقات - أننى انتقلت من عالم الى آخر دون مقدمات موضوعية سوى رغبة مشروعة وملحة فى تطوير الذات واثبات الوجود ولأبرهن  لنفسى على أننى قادر - باذن الله تعالى - على أجتياز اختبار الثقة وتحمل المسئولية كما أثبت لغيرى أن المال وحده لايكفى لاسعاد الانسان ,ربما كان فتيل الموقف الذى عشته فى طلب (يد) شريكة الحياة هوالذى أوقد الشرارة التى أشعلت فى صدرى رغبة متأججة فى الخلاص من دائرة الظل الى دائرة أخرى ليست بطبيعة الحال هى الغنى ولكن لدائرة بناء الذات وتحقيق الكيان الامثل للشخصية والتى من المفترض أن يعقبها دوائر اخرى متعددة ومنها الشهرة والمال , لهذا كانت الرحلة الى باريس لكونها مصدراً هاماً  للقوانين والتشريعات المصرية , كما لايفوتنى أن أنوه الى أن القلة من الناس الذين أشرت اليهم قد يكون من بينهم من عاش ظروفاً شبيهه أو خاض تجربة مثيلة والمهم هو ألا تقف التجربة عند حدود الذات الفردية التى ان خبأت وغببها التراب مع صاحبها فانها تصير عدماً لا وجود له
 وقفت فى- الحلقة الماضية 3 - على مشارف جامعة السربون , أتفحص مبناها الضخم كأنى أمام معبد أثرى له ناسكين ومريدين , لم أرد أن اولج بابها قبل أن أستمتع بهيكلها الخارجى المميز والمكتسى بلون التاريخ , هيبة المبنى فرضت على أن أجتر بعض الافكار القديمة فى ذاكرتى حيث تأملت كيف عاش هنا عميد الادب العربى / طه حسين ولماذا كرمته الجامعة بأن أطلقت اسمه على أهم قاعات كلية الآداب الفرنسية .. قرأت بعض الآيات القرآنية ودعوت الله أن يوفقنى فأنا الآن أقف مع الحلم وجهاً لوجه ثم سميت الله تعالى ودخلت - للمرة الاولى - جامعة السربون

 كان من المفترض أن أتوجه مباشرة الى ادارة الجامعة للتعرف على الاجراءات والاوراق المطلوبة للبدأ فى اجراءات التسجيل ولقد كان من حسن الحظ أن موعد التسجيل فى مطلع شهر سبتمبر من كل عام وكنا - حينئذ - فى منتصف شهر يوليو مما طمأننى الامر على أن هناك شهر ونصف متبقية يمكننى فيها مواصلة دروس اللغة الفرنسية نظراً لضرورة معرفة كيفية وطريقة تعبأة استمارات التسجيل وغير ذلك من اجراءات إلا أن روعة المكان وفخامته أنستنى كل شىء .. وبعد جولتى فى أرجاء الجامعة صعدت الى الطابق الثانى حيث مكاتب السكرتارية ومكاتب الخدمات الطلابية ومن قسم ( الطلبة الاجانب ) حصلت على ملف التسجيل وهو عبارة عن عدة نماذج تتضمن طلب المعلومات الكاملة عن الطالب ومجالات التخصص المطلوب والمستندات والاوراق المتعين تقديمها علاوة على كتيب إرشادى أنيق يحتوى على كافة تفاصيل الدراسة وعناوين الجامعات الفرنسية وارقام هواتفها , ولما كانت محتويات الملف جميعها باللغة الفرنسية فقد كان من الضرورى أن أستعين بأحد فى ترجمتها وفهم محتواها ومن ثم اكمال البيانات المطلوبة ..لذا فقد خرجت من الجامعة الى حديقة  لوكسمبورج  القريبة منها لاستمتع بجمالها الفاتن ومشاهدة مرتاديها الذين يأتونها من كل حدب وصوب ثم عدت أدراجى الى بيت الشباب وهناك حضر الى صديقى المصرى الذى استضافنى لديه عند قدومى الى باريس د/ أحمد عبد الغنى .. أكملنا معاً تعبئة الملف وأصبح جاهزاً للتقديم ..

 خرجنا سوياً وكانت وجهتنا الى حى ( سان ميشيل ) أو كما يطلق عليه حى الطلاب لرخص الاسعار فيه بما يتناسب وظروف الطلاب ..  وعلى أحد المقاهى التقينا ببعض الاخوة المصريين من العاملين فى هذا الحى وجرى بيننا حديث حول فرص العمل فى فرنسا وأماكن الحصول عليها , ومن خلال الحوار تبين لى أن ظروف العمل تختلف من حيث الوضع القانونى للاقامة فى فرنسا فمن يحمل نأشيرة سياحية ( مثلى ) يجب أن يعمل فى أحد مجالات ( العمل الاسود ) كما يسمونه وهو العمل الذى لاتغطية تأمينات اجتماعية أو قانونية او بالاصح هو عمل غير مشروع قانوناً كالعمل فى المطاعم ( غسل الصحون ) أو تقديم المأكولات أو فى مجال ( الصبغ ) أى أعمال النقاشة والدهان وكذلك هناك أعمال أخرى مماثلة تتوافق جميعها فى كونها من الاعمال غير القانونية التى قد تؤدى الى الترحيل من البلاد فى حال ضبطها وهى غالباً الاعمال التى يذهدها ويبتعد عنها المواطن الفرنسى الذى يفضل بدلاً عنها الجلوس فى بيته عاطلاَ أو مايطلق عليه بالفرنسية ( شوماج ) ويحصل على راتب ضمان شهرى إستناداً الى قانون العمل الفرنسى الذى يلزم الدولة بتدبير العمل المناسب لكل مواطن فرنسى أو منحة راتب شهرى .. اما من يحمل اقامة شرعية من الأجانب فهو الذى يستفيد من حق العمل بصورة طبيعية دونما أيه مشاكل ..كما أفادنى صديق بأنه من الممكن العمل فى أحد هذه الاعمال حتى يتم التسجيل فى الجامعة والحصول على ترخيص بالعمل

لمدة ( أربعة ساعات ) فقط يومياً ...تلك كانت عقبة أخرى لم أكن أعلمها ولم يدر بخلدى أنه من الممكن يوماً أن أجد نفسى أمام هذا الواقع المر والذى يستلزم بطبيعة الحال ارادة من حديد وقدرة فائقة على تحمل الصعاب والنزول الى هذا الدرك الادنى من العمل المتواضع , ولم تكن هناك أية خيارات أخرى فاما العمل على هذا النحو أو العودة من حيث أتيت وكفى الله المؤمنين شر القتال .. لست على استعداد فى قرارة نفسى ومن حيث المبدأ أن أكون عرضة للترحيل فى حال تم ضبطى فى هذا العمل الاسود .. ولست على استعداد من ذات المبدأ أن أسعى للزواج من مواطنة فرنسية حتى أحصل على الجنسية الفرنسية التى ستؤهلنى فيما بعد لاقامة شرعية وعمل أو وظيفة محترمة حتى هذه الفكرة لم تكن فى حسبانى اطلاقاً لشدة انتمائى الى وطنى من ناحية ولاننى لا اؤمن بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة رغم انى اكتشفت فيما بعد ان الكثيرين من المصريين قد لجأوا الى تلك الوسائل لتأمين تواجدهم الشرعى فى البلاد .وفى مجمل القول فاننى لم أجد بداً من العمل الاسود ولكن فى أماكن متطرفة من باريس خشية وقوع المحظور والترحيل .. عملت بادىء الامر فى غسيل الاطباق فى مطعم ايطالى شهير ومتخصص فى كل انواع الماكرونة الاسباجيتى لمدة ( 10 ) ساعات فى اليوم تتخللها فترة راحة قدرها ساعتين وكانت تلك تمثل مشكلة لكون سكنى بعيد عن المطعم ويستغرق وقت الراحة فى المواصلات فأقترحت على مدير المطعم أن أظل فى مكان العمل فى فترة الراحة ووافق  

وكان ذلك بمثابة طاقة فرج فقد كانت الوجبات الثلاث التى  يقدمها المطعم للموظفين  والعمال عبارة عن صحن ماكرونة فقط بدون لحم وسلاطة وغيرة مما يقدم للرواد وكان هذا المسلك يغيظنى جداً , لذا فاننى - وليسامحنى الله فيما فعلت - كنت أغلق الباب الرئيسى وأدخل الى ثلاجات اللحم فأستخرج منها مالذ وطاب من أفخم أنواع اللحوم ومع بعض الزبد أكون قد تناولت وجبة غنية وأفخم مما يتناوله الرواد نفسهم .. ظللت على هذا الحال اسبوعين كاملين حتى وصلت الى حالة نفور وتأفف من اللحوم فامتنعت عن المحاولة كما امتنعت عن اكل الماكرونة نفسها لوقت طويل .
كان من الضرورى جداً أن ابحث عن عمل آخر لايستغرق طوال النهار حتى يكون فى استطاعتى التوفيق بين العمل و تعلم اللغة الفرنسية ولقد وفقت فى ذلك لبعض الوقت حيث عملت ( فترة صباحية ) فى أحد المطاعم الفرنسية بميدان ( شارل ديجول ) وكنت أكثر حظاً فى ذاك العمل لكون غسيل الاطباق لايتم يدوياً ولكن بطريقة ميكانيكية مما كان يوفر على مجهوداً كبيراً وفى ذات الوقت فان لدى متسع من الوقت للفسح والتنزة وزيارة الاصدقاء الى جانب معهد اللغة .. وعل جانب آخر

من الاحداث فانه حبن انتهت مدة اقامتى المجانية فى بيت الشباب فقد كان من الضرورى البحث عن مكان آخر للاقامة ولم يدم بحثى كثيراً فقد قادتنى الصدفة الى  لوكاندة متواضعة فى حى ( سان مانداى ) القريب من ميدان ( ناسيون ) فى قلب العاصمة يمتلكها شخص جزائرى يدعى ( وناس ) كما يمتلك تحت اللوكاندة مطعماً ويدير الاثنين معاً .. استأجرت غرفة بايجار قدرة 400 فرنك بدون ( حمام) حيث يشترك المستأجرين جميعهم فى حمامين فقط وفى الطابق الارضى مما كان يمثل مشكلة كبيرة , اضافة الى ذلك فان الحمامين لايوجد بهما ماء ساخن ومن يضطره الامر الى ( دش ساخن ) عليه دفع (15 ) فرنكا عن كل مرة وفى حمام آخرمزود بسخان, هكذا كان يعاملنا ( وناس ) بمنتهى الفظاظة والقسوة , وأتذكر أن اجتماعاً سرياً بينى وباقى مستأجرى الغرف الاخرى أسفر عن قرار ( سرقة ) مفتاح الحمام ( أبو سخان ) وكذلك مفتاح ( مخزن التموين ) المعبأ بكل أنواع الحبوب والخضراوات التى تمد المطعم باحتياجاتة .. وبالفعل تم لنا ذلك واستخرجنا ( 12 نسخة ) من المفتاحين تم توزيعها على الغرف كلها لنعوض بذلك قيمة الايجار المرتفع والمعاملة القاسية التى كنا نعامل بها خاصة فرمان اللوكاندة بمنع دخول زائرين للنزلاء , كان يومى السبت والاحد من كل اسبوع بالنسبة لنا ( نزلاء اللوكاندة ) كالعيد حيث الاستحمام بالبخار والطعام المجانى .. هنا كانت الغاية تبرر الوسيلة حينما تجد نفسك مظلوماً ومهدرة حقوقك علاوة على انها حالة من حالات الضرورة القصوى وأياً ماكان الامر فان الانسان لا يجد الا طلب العفو
من الله تعالى على ما اقترفت يدانا .. والى لقاء آخر فى حلقة رقم ( 5 ) والسلام


المدخل الغربى لجامعة السربون


  أنا فى حديقة لوكسمبورج

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

السلام عليكم يا أخي..
أولا.. أحب أن أهنئك على موقف بلادك البطولي والتصرف الرجولي الذي اعتدنا عليه إزاء الأحداث "المخزية" الأخيرة والوحشية من قبل الجزائريين ولكنني لا أعمم فلم أعتد على ذلك ولكنه فعلا موقف مشين لكل عربي ومسلم..
وفعلا وفقت بطريقتك المرحة "المعتادة" في سرد مواقف تربط هذه الأحداث.. فبلسان كل عربي ومسلم "نأسف"لكم يا أخي..
ومن قال لك أنه لا يعني أحد كلماتك ومواقفك, صدقني يا أخي كلماتك تعني لنا جميعا ونتمنى أن تمتعنا بها دائما..
وفقت في اختيار مواقفك والموسيقى مدعومة بصورك الشخصية وصور الأماكن الحقيقية وفي انتظار ابداعاتك..

فوزى البحيرى يقول...

أخى الفاضل .. لقد أسعدنى - حقاً - تعليقك الاخير خاصة فيما يتعلق بمجريات الامور بين مصر والجزائر وما انتهت اليه من فضائح سيثتثمرها عدونا المشترك بيننا .. على الله صلاح الامور .. احداث الحلقات فعلية عشتها منذ أكثر من 28 عاماً أكتبها هنا اعتماداً على الذاكرة ومؤكد لن اتمكن من استيعاب حجم الذكريات بحلوها ومرها . سأسعد أكثر بصداقتك .. المخلص / فوزى البحيرى