21 ديسمبر 2022

الشيخ عبد العظيم الفقى

 واقعة شخصيه حقيقية 
- عام 1963 في بداية الستينيات وكان عمرى حينها بين الثانية عشرأو الثالثة عشر تقريباً , وكان من بعض عادات أمى رحمة الله عليها أن تستجلب فى بيتنا كل يوم خميس من كل اسبوع شيخ كفيف النظر منذ ميلاده ليتلوا في المنزل ما تيسر من القرآن الكريم تبركاُ وإحتساباً للأجر على روح أمواتنا وموتى المسلمين . وفى مساء ذات يوم , وبعد أن فرغ الشيخ عيد العظيم من القراءة وتناول وجبته الُمعتادة من " الفتة " التي يعشقها وعلى رأسها ترقد قطعتين مُحمرتين بالزبد من اللحم وقد بدت على أساريره علامات الإنبساط والإنشراح والرضا إلا أنه رفض غسل يديه بعد الفراغ من الطعام كى لا تضيع أمارات الشوربة واللحم وبقاؤها على جسده لوقت أطول – هكذا كان تعليقه الساخر كالعاده , فجأه , قالتى لى أمى : - الوقت تأخرعلى مولانا الشيخ وإحنا بعد العصر ويادوب يلحق القطر, قم يابنى وصله . - رددت عليها بأنى أجهز الواجب المدرسى للغد وليس لدى وقت لتوصيله فقالت : - إعمل معروف يابنى , الراجل كفيف والشارع زحمه وحيدعيلك دا مبروك - قمت بإصطحاب الشيخ وسلمته عصاين كما تأبطت زراعه وخرجنا معاً من المنزل حتى الخروج من شارعى الفرعى ثم إلى الشارع الرئيسى المؤدى إلى محطة القطار مباشرة بادرت الشيخ بسؤال عن موعد القطار فقال : باقى حوالى ربع ساعة فقلت له وكيف علمت وأنت لا تحمل ساعة ولا تر فأجاب : - أمك الله يمسيها بالخير كانت بتقولك إحنا بقبنا بعد العصر وطبعا موعد صلاة العصر معروف وأنا بأحدد فوات الوقت في راسى من غير ساعة لم أقف كثيراُ عند هذا السؤال وتلك الإجابة , وبعد أن قطعنا شوطاً من المشى على الطريق بادرنى بسؤال غريب ومثير للدهشه حين قال لى ثم أردف ذلك بالحوار التالى : - إنت واخد بالك يافوزى من البنتين اللى ماشيين قدامك ؟ - أنا , بنتين مين ياشيخ ؟ - هو , يابنى البنت اللى لابسة عباية سودا ع اليمين والتانية اللى لابسة جونله خضرا وبلوزة بيضا !!!!! - أيوه فعلاً يامولانا , بس إزاى عرفت وإنت " وقبل أن انطقها أدباً" قاطعنى فوراً ( أعمى طبعا ) فقلت نعم فقال : بعدين حأقولك , وأكملنا السير وأنا لازلت في قرارة نفسى مندهشاً بعد أن لفت نظرى إلى موضوع الفتاتين اللتان تسيرا أمامنا وقد تأكدت بنفسى من ألوان ثيابهن كما أخبرنى الشيخ تماماً , ورغم حداثة سنى وعدم التركيز كثيراً في حالة ان يصف الأعمى مايراه بلا عينين رغم عدم وجود شخص ثالث معنا إلا أننى لم أسأله في سر ذلك الأمر الغريب , كما لم أشأ أن أقطع عليه مزاجه الخاص وهو يدندن بصوت هامس لمقطع من أغنية أم كلثوم " جددت حبك ليه " , لكنه – فجأه – قطع ترنيمته الهامسة وسألنى فجأة : - العيلين اللى راكبين عجله على شمال البنتين إياهم في غاية قلة الأدب لأنهما كانا يتحرشان بالفتاتين ويضيقان عليهن الطريق - أدرت عيناى فجأه فلاحظت فعلاً صبيان أحدهما يقود الدراجة والآخرجلس خلفه وحينئذ سألت الشيخ عبد العظيم : - إنت شفت بنفسك المشهد ده يامولانا ؟ فأجاب نعم , وهنا وجدت نفسى مضطراً إلى التوقف ثم قمت بنزع النظارة السوداء من على عين الشيخ لأتأكد أنه لا يبُصر فعلا حيث وجدت عيناه مُغلقتان تماما , كما تحسست بيدى عليهما لمزيد من التأكد فزادت دهشتى إندهاشاً أكثر من قبل , والأعجب أنه لم يسألنى لماذا خلعت من على وجهه النظارة ثم أدركت سريعاً أنه كان منبهراً بأسألتى الساذجه لكنه كان ذكياً في عدم الإجابة ليفاجأنى عند توصيله إلى محطة القطار بالأسرار المذهلة . - أوشكنا على الوصول إلى المحطة , وبعد أن حجزت له تذكرة وسلمته إياها وإنتظرنا معاً قليلاً على رصيف المحطه حتى يأت القطار حيث دار بيننا الحوار التالى : - انا : إزاى ياعم الشيخ شفت البنتين ووصفت ملابسهن بالألوان , وإزاى شفت الولدين اللى على الدراجه , وأنهما كانا يتحرشان بالبنتين رغم إنك لاترى ؟ - دا يابنى سر إلهى وفضل من عند الله والحمد لله - فسر لى ياشيخ عبد العظيم مش عاوز ألغاز . - شوف يابنى , - مسألة إنى أبلغتك بألوان ملابس البنتين , كانت برضه مسألة سهلة جداُ , فأنا " سمعت" الولد اللى كان قاعد على الكرسى الخلفى للعجلة بيقول لصاحبه : - عارف ياصلاح إن البنت اللى كانت لا بسه الجونلة الخضرا وبلوزه بيضا أجمل من صاحبتها اللى لابسة عباية سودا , وصلت يابو الفوز ؟ فرديت : وصلت ياشيخ ولله في خلقه شئون ومش ح أسألك :: عرفت منين ن أن كان ولد بيسوق العجلة ومين اللى كان قاعد وراه لأنى بقيت متأكد أن عندك الجواب ... ثم إستطرد الشيخ عبد العظيم كلامه : - من نعم الله تعالى على عباده انه لو إبتلى شخص بفقد عضو من أعضاء جسده فإن الله يعوضه في ذات الوقت في عضو آخر من الجسد أو يقدر الله سبحانه له عوضاً يناسب ظروف المبلتى وهى نعم لا حصر لها ولا عدد فقد يعوضه الله بوافر من المال أو الصحه أو يرزقه الله بخلف إن كان عديماً أو بعلم يرفع من شأنه أو غير ذلك مما يقدره الله له , وأن الله تعالى قد أكرمنى بقوة السمع فأستطيع بأذناى أن ألتقط الهمس على مسافة بعيدة قد لا تكون في الإنسان الطبيعي , ولكى أطمأنك فقد كنا خلف الفتاتين مباشرة وأسمع خطواتهن دونا عن باقى الخطوات الأخرى وأميزهم عن غيرهم من السائرين بجوارنا أو أمامنا أو خلفنا , وتلك الحاسة المميزة عندى أشبه بالرادار ولا تخزلنى أبداً والحمد لله . كان هذا هو الدرس الأول فى بواكير عمرى منذ أكثر من ستون عاماً مضت ولازال قابعا في صدرى بأدق تفصيلات حتى الآن , فالحمد كل الحمد لرب العرش العظيم إذ يقول : بسم الله الرحمن الرحيم : " سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ المُستشار فوزى البحيرى

حرب 67

صفحة من ذكرياتى في حرب 67 ولم نكن ندرك جميعا على وجه التحديد وقت وقوع هذا العدوان الغاشم من إسرائيل سبب نشوب هذه الحرب المفاجأه, أو ما تسمى بحرب الأيام السته التي غيرت منطقة الشرق الأوسط تغييراً كبيرا حيث , إستهلت الإذاعة المصرية بإصدار بيان عاجل بقيام إسرائيل في الساعة 8:45 دقيقة من صباح يوم الاثنين الخامس من يونيو - ولمدة 3 ساعات - بغارات جوية على مصر في سيناء والدلتا والقاهرة ووادي النيل. وبين الحين والآخرتطالعنا في نشرات الأخبار المتوالية لجظة بلحظة عن أخبار عاجلة جميعها تقريباً كانت تعلن بشارات النصر والتفوق العسكرى لمصر على إسرائيل فتارة تعلن النشرة عن إسقاط عدد كبير من طائرات العدو يتلوها بعد ساعة تقريباُ خبر آخر بقيام القوات المسلحة المصرية بتدمير رتل من العربات المدرعة أو العربات والدبابات المدرعة أو غير ذلك من الأسلحة الثقيلة , لذلك كنا حريصون على متابعة تلك الأخبار أولاً بأول وأذكر علامات الفرح الكبيره على وجوه المصريين خاصة المتجمعين بكثرة في النوادى والمقاهى الشعبية وهتافاتهم المرتفعه وتهليلاتهم وتكبيراتهم بعبارات ( الله أكبر.. الله أكبر ) عقب كل بيان تصدره النشرة مع إستمرار بث الأغانى الوطنية الحماسية معظم النهار , وبناء على تعليمات وزارة التربية والتعليم لجميع مدراء المدارس الثانونية بمحافظتى بالتوجه فوراً إلى مقرات " منظمة الشباب الإشتراكى " للتطوع بالمساعدة على جنودنا في جبهات القتال وخاصة في محافظتى السويس والإسماعيلية وسائر مدن القنال , وقد قامت المحافظة بالفعل بتخصيص عدد من المباني في مدينة الزقازيق لإستقبل الطلاب المتطوعين وتسجليهم ومنحهم بطاقات تعريفية تحت مظلة هذه المنظمة , كان صوت صفارات الإنذارالعاليه المخيفة ترعبنا حيث على إثر سماعها إطفاء كل أنوار المدينة بأسرها وغلق المتاجر والمحلات وتقريبا تكون الحالة العامة في الظلام الدامس أشبه بالشلل التام خاصة وان كثرة مرات إطلاق صفارات الإنذار متلاحقة مما ينبىء عن خطورة الوضع وما ستئول إليه الأحداث , دفعنى الحماس بالذهاب الى مركز منظمة الشباب في المبنى المقابل لنادى السكة الحديد مرتدياً " الملابس العسكرية التي كنا – كطلاب نرتديها في حصة التربية العسكرية بالمدرسة " وبعد إجراءات التسجيل وإستلام بطاقتى ومعرفة المكان الذى سأتوجه إلية لبدأ مهمتى في التطوع وكان المقر هو " مدرسة النحال الإعدادية للبنات " وهناك وجدت المئات من شباب الطلاب يتلقون تعليمات مهام الأعمال التي ستناط بهم من بعض الضباط العسكريين وقد إسمى من خلال كشف الأسماء وأماكن المناطق التي يقع فيها إختصاصى . كانت منطقة قسم النحال هو مكانىوالذى أقيم فيه فعلاً وكان إختصاصى ينحصر في بندين أولهما التواجد صباح كل يوم في هذه المدرسة للمشاركة في إستلام صناديق الأسلحة والذخيرة الواردة من مخازن وزارة الدفاع كمرحلة أولى ثم في المرحلة الثانية فك الصناديق الموجود بها قطع السلاح المفككة لنعيد تركيبها – حسب تعليمات القيادة – ثم إعادتها لصناديقها مرة أخرى ثم تجميعها ليأخذها فريق آخر ووضعها في السيارات العسكرية ثم نقلها إلى مدن القنال لتوزيعها على الوحدات العسكرية .أما البند الثانى فهو المشاركة في الدفاع المدنى في مراقبة إطفاء الأنوار العامة عقب سماع صفارة الإنذار الليلية . وفي ظهيرة اليوم التالى من نشوب الحرب وأثناء عودتى للمنزل شاهد كم كبير من السيارات العسكرية المكشوفة بحيث يمكن للمارة رؤيتها لا تقل عن خمسون سيارة معبأة بأكوام من جثث الجنود المصريين ملقاه بصناديق السيارارات قادمة من أرض المعركة في مدن القنال ومتوجهة إلى مبنى المستشفى العام , كان المنظر مروعاً لأقصى الحدود ومؤلماً ولن أتخيل أنى سأرى أسوأ من ذلك المشهد ما بقى لن من عمر , عنئذ أدركت حقيقة الأمر الذى أخفته عنا نشرات الأخبار , وأدركت أن الأغانى الوطنية والموسيقات العسكرية وتبشيرات المذيعين بالنصر على إسرائيل كلها كاذبة حبث – بنفسى – رصدت مرور اكثر من خمسون عربة في طابور واحد لا يقل في كل واحدة منها لا يقل عن مائة شهيد , وأن مؤكد هناك طوابير أخرى بذات الحجم والعدد ستمر من أمامى أو سيتم توزيعها على مستشفيات في مناطق أو في أوقات . إذاً , لماذا كانت هذه الحرب , وما أسبابها ؟ وهل كنا البادئين فيها أم كنا ندافع عن النفس ؟ ولماذ تم تضليلنا نحن الشعب في إخفاء تلك الوقائع وفى بشارات النصر المرتبطة بالأغانى الوطنية والأكاذيب التي توحى بالنصر على إسرائيل وكأننا على أبواب تل أبيب ؟ وحتى وقت قريب بعد مضى أكثر من 50 عاماً فقد بدأت في إستعادة الأحداث قليل منها من الذاكرة والباقى من خلال صفحات أخرى من ذكريات بعض من مروا بتلك الحقبة الكئيبة المريرة من تاريخنا العربى السياسى . هناك جملة أسباب أدت إلى نشوب حرب 1967 التي قادت إلى ما سمي "النكسة"، وبعض هذه الأسباب مباشر وبعضها غير مباشر. ـ تتمثل الأسباب غير المباشرة في اعتبار إسرائيل أن الأحداث التي تلت حملة سيناء عام 1956 (العدوان الثلاثي) تشكل تهديدا لأمنها، ومن أبرز هذه الأحداث جهود التسلح التي تبذلها مصر بقيادة جمال عبد الناصر، ونشاط سوريا ضد المستعمرات الإسرائيلية على الجبهة السورية وأمام الجبهة الأردنية. ـ من هذه الأحداث أيضا قرار القمة العربية 1964 في القاهرة بتحويل مياه نهر الأردن في كل من سوريا ولبنان وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية 1965. ـ أما عن الأسباب المباشرة فتقف في طليعتها قرارات وأحداث مهمة وقعت منذ منتصف مايو/أيار 1967، من بينها مطالبة مصر بسحب قوات الأمم المتحدة من سيناء وبدؤها حشد جيشها في سيناء، وإغلاقها يوم 22 مايو/أيار "مضايق تيران" بالبحر الأحمر في وجه الملاحة الإسرائيلية، وهو ما اعتبرته إسرائيل بمثابة إعلان رسمي للحرب عليها. ـ إثر ذلك بدأ تخطيط إسرائيل لشن الحرب على دول الجوار العربي مع مطلع يونيو/حزيران عام 1967 في ظل تواطؤ خفي ظاهره عدوان ضد سوريا، حيث أبلغ وفد سوفياتي مصر أن إسرائيل حشدت 11 لواء على الحدود السورية، وإعلان مصر تدخلها لمساندة سوريا وما تلاه من أحداث. الميزان العسكري ـ توزعت الغارات على 3 موجات، نفذت الأولى 174 طائرة والثانية 161 والثالثة 157 بإجمالي 492 غارة، ودُمّر فيها 25 مطارا حربيا وما لا يقل عن 85% من طائرات مصر وهي جاثمة على الأرض. ـ طبقا للبيانات الإسرائيلية فإنه تم تدمير 209 طائرات من أصل 340 طائرة مصرية كانت الجبهة المركزية بالنسبة لإسرائيل، وجرت أحداثها العسكرية والدبلوماسية خلال أيام الحرب الستة كالآتي: ـ اليوم الأول: انطلقت في أعقاب الضربة الجوية الإسرائيلية مباشرة -وفي الساعة 9:15- تشكيلات القوات البرية الإسرائيلية لتخترق الحد الأمامي للجبهة المصرية في سيناء بـ3 مجموعات عمليات. ـ في ساعة متأخرة من المساء استطاعت -بهجومها على المحاور الثلاثة الشمالي والأوسط والجنوبي- تدمير فرقتيْ مشاة النسق الأول السابعة والثانية، اللتين كان يرتكز عليهما النظام الدفاعي المصري. ـ اليوم الثاني: صباح السادس من يونيو/حزيران سقطت العريش وانفتح المحور الشمالي أمام القوات الإسرائيلية المدرعة. ـ كانت مهمة الطيران الإسرائيلي طوال اليوم هي تثبيت الوحدات المدرعة في الممرات الجبلية، وفي مساء اليوم نفسه أذاعت إسرائيل أن عناصر قواتها وصلت إلى قناة السويس مما أصاب جنود الجيش المصري بالذعر، في حين أطلق عليه الغرب "الحرب الخاطفة". ـ في مساء هذا اليوم أيضا تمكن الإسرائيليون من الاستيلاء على مدينتيْ غزة وخان يونس في قطاع غزة الذي كان يخضع آنذاك للسيادة المصرية. ـ كان نائب القائد الأعلى للقوات المصرية عبد الحكيم عامر قد أصدر في الساعة الخامسة مساء أمرا بالانسحاب العام لجميع قوات سيناء إلى غرب قناة السويس، على أن ينفذ على مراحل وخلال الأيام التالية، وهو القرار الذي أثر سلبا على أداء الجيش المصري وعلى مسار الحرب بالنسبة له. ـ أما على الصعيد الدبلوماسي الدولي فقد صدر ذلك اليوم قرار مجلس الأمن رقم 233 بوقف إطلاق النار، وهو ما كان يعني حينها إقرارا دوليا باحتلال إسرائيل أراضي مصرية وحرمان مصر من حقها في استعادتها. ـ اليوم الثالث: كان على القوات المصرية صباحا وفي وسط سيناء مواجهة 3 مجموعات عمليات، وظهرت في هذا اليوم -الذي تركزت فيه العمليات على الجبهة المصرية مع وقف إطلاق النار على الجبهة الأردنية- بوادر الانهيار التام للقوات المصرية مع قرب وصول القوات الإسرائيلية إلى قناة السويس. ـ اليوم الرابع: مع قرب وصول القوات الإسرائيلية إلى قناة السويس بدأت في هذا اليوم الاستعدادات للدفاع عن القاهرة من مدخليْ السويس والإسماعيلية. ـ جرى حديث بين السوفيات والرئيس عبد الناصر عن وقف القتال على الجبهة المصرية، في الوقت الذي شكلت فيه الوحدات المصرية المدرعة الباقية سدا دفاعيا وسط سيناء، ولكن مع قبول مصر وقف إطلاق النار كانت قد انهارت الدفاعات المصرية الباقية شرق القناة، وبدأ الارتداد العام والانسحاب من سيناء. ـ اليوم الخامس: قامت القوات الإسرائيلية في هدوء باحتلال سيناء كلها حتى شرم الشيخ، باستثناء الخط من رأس العش شمالا وحتى شرق بور فؤاد الذي ظل تحت سيطرة القوات المصرية. ـ على الصعيد الدبلوماسي الدولي صدر في هذا اليوم قرار مجلس الأمن رقم 235 لتأكيد وقف إطلاق النار، بينما أعلن عبد الناصر في أعقاب هذه الخسارة تنحيه عن السلطة. ـ اليوم السادس: إثر تنحي الرئيس عبد الناصر؛ استقال عبد الحكيم عامر ووزير الحربية شمس بدران، وخرجت مظاهرات شعبية ترفض قبول تنحي الرئيس وطالبت بعودته، فوافق عبد الناصر على ذلك وعاد إلى الحكم. ـ توقفت الحرب مساء يوم العاشر من يونيو/حزيران، وصدر قرار من مجلس الأمن 236 الساعة الرابعة والنصف من يوم 11 يونيو/حزيران ينص على إدانة أي تحرك للقوات بعد 10 يونيو/حزيران. ـ بانتهاء الحرب حققت إسرائيل نصرا كبيرا كانت له نتائج مهمة عسكريا وسياسيا واقتصاديا. وخسر العرب في هذه الحرب المزيد من الأراضي لصالح إسرائيل، أما الخسائر البشرية والعسكرية للحرب فغالب بياناتها قد تضاربت لكونها معلومات سرية. ـ لم تتوقف الخسائر البشرية عند هذا الحد وإنما أجبرت تلك الهزيمة التي مُني بها العرب ما بين 300 ألف و400 ألف عربي من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة والمدن الواقعة على طول قناة السويس (بورسعيد والإسماعيلية والسويس) على الهجرة من ديارهم، وخلقت مشكلة لاجئين فلسطينيين جديدة أضيفت إلى مشكلة اللاجئين الذين أجبروا على ترك منازلهم بعد أحداث النكبة عام 1948. ـ كما أجبرت الحرب قرابة 100 ألف من أهالي الجولان على النزوح من ديارهم إلى داخل سوريا. وألحقت هزيمة نفسية بالجيوش العربية بعد أن فقدت الكثير من ثقتها في قدراتها العسكرية وكفاءتها القتالية، في حين ارتفعت معنويات الجيش الإسرائيلي وراجت مقولته القائلة إنه "الجيش الذي لا يقهر" . المستشار فوزى البحيرى

26 يناير 2010

: أبوالفيز فى باريز... الحلقة - 6 - أنا والملياردير اليهودى


لمحة : فى باريس .. بإمكانك أن تر العديد من المتناقضات , فهى مدينة ترضى كل الأذواق وتلبى كافة الإحتياجات وتتعامل مع جميع المستويات الإنسانية والإجتماعية , وفيها ترى المبانى الشاهقة والقصور الفخمة وناطحات السحاب كما تر البيوت المتواضعة ذات الدرك الأسفل من البناء للحد الذى لا تتصور فيه أن بيتاً من تلك البيوت فى عاصمة من أشهر عواصم العالم تحضراً ورقياً يقبع وسط أطنان من الزبالة والقاذورات ومن السهولة بمكان أن تجد أحياء كاملة تغوص فى مستنقعات تسكنها الفئران والحشرات وغالباً ما تسكنها الجاليات الأجنبية الفقيرة كالعرب والأفارقة , ولعل هذا التناقض هو مايميز مدينة باريس بإعتبارها مدينة تجمع كل المتناقضات لتصبح بذلك أولى عواصم العالم جذباً للسياحة حيث يجد زوارها فى هذا التناقض متعة خاصة تستهويهم بحسبانه غير مألوفاً لديهم ويرونه من باب الفضول الإنسانى .. إن الحياة فى باريس تنسيك كل شىء حتى وطنك حيث فيها من الإغراءات المختلفة والمتعددة ما يشغل بالك دائماً ويجعلك فى حالة من الإنبهار المستمر .. فيها حركة سريعة وفيها أنظمة عرفية تحولت الى مايشبه القانون كالمحافظة على الوقت وعدم إهدارة فيما لا ينفع وإحترام الآخر مهما كان شخصه ونظام التعامل المجتمعى فالعلاقة بين المشترى والبائع تتم من خلال أسلوب مهذب وحضارى وأنيق ولاتفارق الإبتسامة وجوههم كما أن لديهم أسلوب خاص فى تقنين إحتياجاتهم الخاصة فالفرنسى لايشترى سلعة ما إلا إذا  كانت ضرورية وفى نطاق الكمية المطلوبة كشراء أصبعين من الموز أو جذء صغير من بطيخة أو 3 أو 4 حبات فاكهة أو نصف رغيف خبز ( بان أو باجيت ) حتى لو وقف فى ( طابور) ساعة زمن .. تذكرت الآن وضعنا فى مصر حيث المعارك الضارية بين الناس أمام المخابز والجمعيات الإستهلاكية من أجل شراء سلعة ما وخاصة الخبز والدجاج فما أن يتم نشر خبر وجود سلعة تموينية شحيحة فى السوق إلا ويتدافع الناس فى سباق محموم للفوز بكم هائل من السلعة وكأنها لن تعود للظهور مرة أخرى أو توقع مجاعة آتية تحرق اليابس والأخضر .. .( إنتهت اللمحة ) .
أحداث الحلقة السادسة :
تقدمت الى قسم شئون الطلاب بالجامعة وسلمت ملف التسجيل بعد إستكمال كافة البيانات والمعلومات المطلوبة , وبعد مراجعتها من الموظف المختص أحالنى الى موظفة أخرى لقيدى ضمن المتقدمين للتسجيل والتى أعطتنى موعد مراجعة آخر لدراسة الملف وإجراء ( معادلة لشهادة الليسانس ) .. وفى الموعد المحدد لمعرفة نتيجة المعادلة فقد أخبرتنى الموظفة بأنه قد تمت الموافقة على المعادلة ونصحتنى بالتوجه الى مكتب آخر للحصول على موعد ( إمتحان التسجيل ) وعلمت أن هذا الإمتحان هو الذى سيتقرر فيه قبولى أو عدم قبولى كطالب فى جامعة السربون , كما علمت أن الإمتحان سيكون من شقين أولهما إختبار للغة الفرنسية والآخر إختبار للمواد القانونية ( شفهى وتحريرى ) ,

كان علىّ - بعد تحديد موعد هذا الإمتحان - أن أن أتفرغ تماماً لدراسة اللغة الفرنسية ( نطقاً وقراءة وكتابة ) وأن ألم بالمصطلحات القانونية وذلك بعد أن قطعت شوطاً لا بأس به فى تعلم اللغة الأمر الذى الجأنى الى الزيارات المستمرة لأصدقائى من المغاربة والتونسيين الذين تعرفت بهم خلال عملى فى الأسواق والصباغة والمطاعم وقد وجدت منهم ترحيباً كبيراً وكان هذا من فضل الله تعالى على , كانوا يساعدوننى فى تعلم اللغة ومخارج ألفاظها ومن حسن حظى أن كان أحدهم يدرس قانون مقارن فى جامعة أخرى .. وبناء على طلبى منهم فقد كانت لغة تخاطبى معهم باللغة الفرنسية وليست العربية للتمرس على إستخدامات اللغة وقواعدها.. وقبل موعد الامتحان بشهر تقريباً كنت فى مستو أفضل عما كنت فى اللغة الفرنسية مما أشعرنى ذلك ببعض الثقة فى نفسى ومنحنى أملاً فى إمكانية إجتياز إمتحان التسجيل المرتقب

14 ديسمبر 2009

أبوالفيز فى باريز... الحلقة - 5 -

لم يدم بى الحال طويلاً فى العمل بالمطاعم الفرنسية كغاسل أطباق , ولم يكن هناك أدنى أمل فى الحصول على ترقية والاشتغال - مثلاً - متروديتيل أى جارسون وهو عمل أكثر رفاهية من عدة وجوه فهو يبقيك دائماً نظيفاً مهندم الثياب ويجعلك مختلطاً بالناس بصفة مستمرة بدلاً من قضاء ساعات النهار فى سرداب المطعم لا تر الا الآوانى والآكواب والشوك والملاعق والسكاكين , علاوة عى ارتفاع الاجر بالمقارنة بغسيل الاطباق , لقد كان الحائل الوحيد هو عدم اجادة اللغة الفرنسية والتى تعد شرطاً أساسياً لتلك المهنة , لذا فقد كان هاجس البحث عن عمل آخر بديل أقل جهداً ويحفظ للمرأ ماء وجهه وكرامته وأن يجد متسعاً من الوقت للتحصيل والدراسة وهى الاهم فى رحلتى .
 كان الاشتغال مع أصحاب أعمال وموظفين عرب هو الحل المؤقت نتيجة لعدم اتقان الفرنسية من ناحية ولأننى لم أكن على دراية كافية بالمناخ الأوربى وكيفية الإندماج والتأقلم والإنصهار مع المجتمع الفرنسى بوجه خاص من ناحية أخرى ، لذا فقد مارست العديد من الأعمال الحرفية التى لا يشترط لادائها إستعمال اللغة إلا بالقدر اليسير وهذا كان متوفراً فى صورة إلتقاط وحفظ العبارات الشائعة والأكثر تداولاً فى المجتمع والتى من خلالها يستطيع المرء أن يقضى حوائجه بسهولة ، كان من ضمن تلك الأعمال ( بيع الخضروات والفاكهة ) فى الأسواق الفرنسية ( مارشية ) خاصة فى المناطق والأحياء الشعبية التى يغلب فيها الطابع العربى والإفريقى كأسواق ( بل فيل ) و( باربيس ) و ( لاشابيل ) و (مونتروى ) وغيرها حيث من السهولة بمكان التعامل مع أصحاب الأعمال الذين أغلبهم من اليهود التنونسيين أو الجزائريين
، كذلك فقد كان من بين الأعمال التى كان لى حظ العمل فيها هى ( الصبغ ) أو باللغة المصرية ( نقاش ) وباللغة الفرنسية ( بانتير ) يندرج تحتها كافة أعمال الديكور الخارجى والداخلى للمبانى والشقق السكنية من دهانات ولصق ورق حائط وموكيت وأنوه إلى أن طبيعة هذا العمل قد لاقت هوى فى نفسى لانها ترجمة حقيقية لهواية الرسم التى أمارسها بشغف وإجادة .

21 نوفمبر 2009

أبوالفيز فى باريز ( الحلقة 4 ) جامعة السربون والبحث عن عمل واقامة :



مقدمة :   قد لايعنى أحداً - سواى وقلة من الناس ومن ضمنهم أولادى الذين فاجأتهم هذه الحلقات - هذا السرد المطول من الاحداث التى عشتها وبكامل تفاصيلها خلال حقبة من العمر كانت تمثل بذاتها حجر الاساس فى بناء حياتى الخاصة حيث سبق لى القول - فى مقام سابق من الحلقات - أننى انتقلت من عالم الى آخر دون مقدمات موضوعية سوى رغبة مشروعة وملحة فى تطوير الذات واثبات الوجود ولأبرهن  لنفسى على أننى قادر - باذن الله تعالى - على أجتياز اختبار الثقة وتحمل المسئولية كما أثبت لغيرى أن المال وحده لايكفى لاسعاد الانسان ,ربما كان فتيل الموقف الذى عشته فى طلب (يد) شريكة الحياة هوالذى أوقد الشرارة التى أشعلت فى صدرى رغبة متأججة فى الخلاص من دائرة الظل الى دائرة أخرى ليست بطبيعة الحال هى الغنى ولكن لدائرة بناء الذات وتحقيق الكيان الامثل للشخصية والتى من المفترض أن يعقبها دوائر اخرى متعددة ومنها الشهرة والمال , لهذا كانت الرحلة الى باريس لكونها مصدراً هاماً  للقوانين والتشريعات المصرية , كما لايفوتنى أن أنوه الى أن القلة من الناس الذين أشرت اليهم قد يكون من بينهم من عاش ظروفاً شبيهه أو خاض تجربة مثيلة والمهم هو ألا تقف التجربة عند حدود الذات الفردية التى ان خبأت وغببها التراب مع صاحبها فانها تصير عدماً لا وجود له
 وقفت فى- الحلقة الماضية 3 - على مشارف جامعة السربون , أتفحص مبناها الضخم كأنى أمام معبد أثرى له ناسكين ومريدين , لم أرد أن اولج بابها قبل أن أستمتع بهيكلها الخارجى المميز والمكتسى بلون التاريخ , هيبة المبنى فرضت على أن أجتر بعض الافكار القديمة فى ذاكرتى حيث تأملت كيف عاش هنا عميد الادب العربى / طه حسين ولماذا كرمته الجامعة بأن أطلقت اسمه على أهم قاعات كلية الآداب الفرنسية .. قرأت بعض الآيات القرآنية ودعوت الله أن يوفقنى فأنا الآن أقف مع الحلم وجهاً لوجه ثم سميت الله تعالى ودخلت - للمرة الاولى - جامعة السربون

 كان من المفترض أن أتوجه مباشرة الى ادارة الجامعة للتعرف على الاجراءات والاوراق المطلوبة للبدأ فى اجراءات التسجيل ولقد كان من حسن الحظ أن موعد التسجيل فى مطلع شهر سبتمبر من كل عام وكنا - حينئذ - فى منتصف شهر يوليو مما طمأننى الامر على أن هناك شهر ونصف متبقية يمكننى فيها مواصلة دروس اللغة الفرنسية نظراً لضرورة معرفة كيفية وطريقة تعبأة استمارات التسجيل وغير ذلك من اجراءات إلا أن روعة المكان وفخامته أنستنى كل شىء .. وبعد جولتى فى أرجاء الجامعة صعدت الى الطابق الثانى حيث مكاتب السكرتارية ومكاتب الخدمات الطلابية ومن قسم ( الطلبة الاجانب ) حصلت على ملف التسجيل وهو عبارة عن عدة نماذج تتضمن طلب المعلومات الكاملة عن الطالب ومجالات التخصص المطلوب والمستندات والاوراق المتعين تقديمها علاوة على كتيب إرشادى أنيق يحتوى على كافة تفاصيل الدراسة وعناوين الجامعات الفرنسية وارقام هواتفها , ولما كانت محتويات الملف جميعها باللغة الفرنسية فقد كان من الضرورى أن أستعين بأحد فى ترجمتها وفهم محتواها ومن ثم اكمال البيانات المطلوبة ..لذا فقد خرجت من الجامعة الى حديقة  لوكسمبورج  القريبة منها لاستمتع بجمالها الفاتن ومشاهدة مرتاديها الذين يأتونها من كل حدب وصوب ثم عدت أدراجى الى بيت الشباب وهناك حضر الى صديقى المصرى الذى استضافنى لديه عند قدومى الى باريس د/ أحمد عبد الغنى .. أكملنا معاً تعبئة الملف وأصبح جاهزاً للتقديم ..

07 نوفمبر 2009

أبو الفيز فى باريز ( الحلقة 3 ) عقبات يجب تخطيها :


ميدان الكونكورد  

ثلاثة أيام قضيتها فى ضيافة صديقى كان خلالها نموذجاً للصديق الوفى فلم يدخروسعاً
فى تهيئة كل وسائل الراحة الممكنة مما بعث فى نفسى شىء من الطمأنينة وأزال من و جدانى الشعور بفقدان الأهل والوطن .. لم يبخل على الرجل - بارك الله فيه - بأية معلومات خاصة ماتعلق منها بالدراسة وبمراحلها المختلفة بدءاً من التسجيل وحتى مرحلة الإعداد لرسالة الدكتوراة  الغاية المبتغاة - ولقد لاحظت - من خلال الحوار - أن المهمة ليست باليسيرة فهناك إجراءات شكلية تتعلق بشروط التسجيل فى الجامعة والمستندات المطلوبة ومواعيد التقديم وإختبارات تحديد المستوى اللغوى والقانونى والتى يعقبها الحصول على موافقة إدارة الجامعة بالقبول  ومع الأخذ فى الإعتبار ضرورة تخطى إجراءات ( معادلة ) شهادة ليسانس الحقوق من حيث صفة الجامعة الصادر منها الشهادة والمواد العلمية ... الخ ... علاوة على ضرورة تقديم وثيقة إثبات  المقدرة المالية على الإعاشة طوال مدة الدراسة .. أما فيما يتعلق بالشروط الموضوعية فهى تنحصر إجمالاً فى نوعية ومجال الدراسة والدرجة العلمية المطلوبة وما يناسبها من إجراءات علمية متخصصة وهذه هى أهم مافى الموضوع بأكمله بل وهى الأساس الذى يجب فيه على الطالب تحديد مشوار الدراسة إبتداءاَ وإختيار البرنامج الأمثل لتحقيق مايصبو إليه  
أما فيما يتعلق  بالنواحى العامة للحياة فى فرنسا فقد كان للحوار نصيب مهم فى تلك المسألة فهناك ضروريات لاغنى عنها مثل حالة تقنين الإقامة الشرعية والبحث عن مصدر رزق مناسب لايتعارض مع برامج الدراسة والسعى لتدبير مكان إقامة ثابت ودائم علاوة على ضرورة تحسين مستوى اللغة الفرنسية .
كان على أن أبدأ الطريق منفرداً وإعتماداً على الذات وتلك كانت مسألة تشكل هاجساً مرعباً منذ خطواتى الأولى فى بلاد الإفرنج - كما كان يسميها طه حسين ورفاعة الطهطاوى والجبرتى - وذلك نظراً لكونها التجربة الأولى فى حياتى التى أغامر فيها بالخروج من الواقع المحلى للواقع الدولى وبدون تجربة سابقة فى الإعتماد على النفس ويمكننى أن أقول أنها رحلة الى المجهول سيما وأن مشروع الدراسة بأكمله سيكون على نفقتى الخاصة وبمجهودى المنفرد وتلك الوجهة تختلف كثيراً عن ( منحة الدولة أو الإبتعاث ) حيث لايكون الطالب مضطراً للعمل لتدبير أمور حياته المعيشية ولديه الوقت الكامل للتفرغ للدراسة  وشتان بين هذا وذاك .
كان أكثر مايشغلنى هو تفكيرى الدائم فى مبدأ وجودى على أرض باريس وحلم تحقيق الذات وكيفية وأسلوب تحقيقه .. صحيح كانت هناك عراقيل وعوامل مثبطة ولكنى كنت على يقين بأن الله تعالى لن يخذلنى وأنه سبحانه وتعالى سيوفقنى , كنت أنظر دائماً وبرؤى متفائلة الى من سبقونى من الرعيل الأول والذين نحتوا بأظافرهم فى الصخر ليسجل لهم التاريخ أروع الملاحم وأذكر منهم طه حسين الذى فاز على نفسة ودلل على أنه ليس هناك مستحيل رغم كونه لا يبصر ومثله رفاعة الطهطاوى صاحب كتاب ( الإبريز فى تلخيص باريز ) .. وتوفيق الحكيم الذى وإن كان قد فشل فى التعليم والحصول على شهادة فى الأدب الفرنسى إلا أنه عاد وفى جعبته عشرات الكتب والروايات التى خلدته بعد مماته والتى منها رواية ( عصفور من الشرق ) التى أخبرنا فيها عن أهم ذكرياته فى باريس .. لهذا فقد كان لدى حلم ورغبة حقيقية فى أكون ممن يشار اليهم بالبنان ( هذا العالم القدير الأستاذ الدكتور/ .. هو ذاته إبن الرجل الفقير ,
أذكر - حينئذ - أنه لم يكن أمامى من سبيل للخوض فى نسيج المجتمع الفرنسى إلا أن أسعى لصداقات جديدة وهو مافعلته بالذهاب الى المدينة الجامعية الدولية والتى لا تبعد كثيراً عن الحى اللاتينى والتى أنشأت عام 1925 وهى ملتقى للطلبة الأجانب من كافة دول العالم وبدعم من الحكومة الفرنسية , تضم بيوتاَ للدول لأقامة رعاياها فيها وكانت مساحة ( المطعم ) الذى أعد لناول الطعام فى تلك المدينة يتسع لأكثر من 2500 طالب على إختلاف جنسياتهم , كان هذا المكان ملتقى هام لكافة الدارسين وفيه إستطعت أن التقى بالعديد من الطلبة العرب وخاصة المغاربة والمصريين


إستيقظت فى صباح اليوم الرابع من وصولى باريس واتجهت الى (أحد بيوت الشباب فى ضاحية من ضواحى المدينة ) - وهى بيوت عديدة ومتناثرة فى مناطق مختلفة من فرنسا بدعم خاص من منظمة اليونسكو , تقدم خدمة المبيت والطعام لأى طالب وافد أيا كان بلده وجنسيتة مجاناً وذلك لمدة شهر واحد غير قابلة للتجديد , وبعد إجراء التسجيل فى بيت الشباب وإختيار غرفة يشاركنى فيها طالب ماليزى - أودعت حقيبتى المتواضعة فى خزانتى ثم غادرت المكان قاصداً محطة المترو وهناك إستخرجت إشتراكاً شهرياً منخفض التكلفة لأتمكن من الإنتقال حسبما شئت .. ولدواعى إقتناص الوقت فقد كان من المهم أن أبحث عن مدرسة أو معهد لتعليم اللغة الفرنسية , ومن خلال الدليل الخاص حصلت على عنوان ( مدرسة الإليانس فرانسيز ) وهى مدرسة متواضعة المصروفات ليست ببعيدة عن بيت الشباب كثيراً , وهناك تقدمت بطلب إلتحاق ولمدة شهر واحد حتى اتبين مستواها التعليمى , 5 حصص مسائية فى الإسبوع ) , تبين لى بعد ثمانية محاضرات أنها ليست المكان المؤهل لتعلم اللغة لقرب التشابه بينها ومدرسة المشاغبين ولكثرة التحرش بين الطلبة ,.كان على بعدئذ أن أجد مكان آخر وقد وفقت فى إختيار  المعهد الكاثوليكى الفرنسى ) وهو وإن كان بعيداً عن مكان الإقامة ومصروفاته عالية  الى حد ما  إلا أننى وجدت فيه الضالة المنشودة   نظراً لمستواه العالى فى تعليم اللغة الفرنسية ولإعتماده على برامج سمعية وناطقة لتعليم القدرة فى مخارج الألفاظ علاوة على انه معهد معتمد لتدريس اللغة حسب المعايير الأوروبية  وبه إمكانية تحصيل الدروس فى الفترة المسائية  وعلى ذلك فقد كنت سعيداً بتخطى أهم العقبات وانه على أن أجتاز عقبتين أخريين هما : تدبير العمل المناسب لتوفير مورد للتعيش ومواجهة المصروفات والآخر هو تدبير سكن مناسب ودائم بعد إنتهاء فترة الإقامة المجانية فى بيت الشباب .
كان الشوق يدفعنى بشدة الى رؤية جامعة السربون وبعد إتصال هاتفى بصديق عرفت مكانها فركبت المترو وذهبت الى الجامعة .. وقفت مشدوهاً أمام مبناها العريق والذى تشم من الهواء المحيط بكل أركانة عبق طيب وكأن للتاريخ عطر خاص .. مبنى يجبرك على الوقوف أمامه متواضعاً محنى القامة فأنت أمام صرح شامخ محلى بالجواهر .. تماما هو قريب الشبه أو نسخة مكبرة من جامعة القاهرة والتى استوحى مبناها من مبنى السربون .. شيد هذا المبنى فى القرن الثانى عشر وتحديداً عام 1257 م بمعرفة السير الفرنسى / روبرت دى سوربون وسميت الجامعة بإسمه تخليداً لذكراه والى لقاء آخر والحلقة  4

هذه بعض الصور الخاصة بجامعة السربون         
  (UNIVERSITE` PANTHEON SORBONNE  PARIS 2 )


( إضغط على الصور للتكبير )
الصورة الكبرى للمنظر العام للجامعة ثم الصور الصغرى : الفناء الداخلى واحدى المكتبات الرائعة والمدخل الغربى للجامعة ثم البهو الداخلى العام




03 نوفمبر 2009

أبو الفيز فى باريز ( الحلقة 2 ) وصول باريس :




على أحد مقاعد محطة القطار المتجة من ( مارسيليا ) الى باريس , فكرت كثيراَ فى وجهتى التى سأقصدها والمكان الذى أنا ذاهب إليه فمدينة باريس - حسب علمى المسبق - كبيرة جداً ويكفى أن عدد سكانها - وقتئذ - يناهز التسعة ملايين نسمة كما يوجد فيها أكثر من خمسة محطات قطار رئيسية أهمها ( جار دى ليست - جار دى نورد - ) الأمر الذى يتعين على فيه أن أحدد مسبقا وجهتى ومكان وصولى وذلك قبل حجز بطاقة الصعود للقطار تلافياً لأية إحتمالات للضياع فى بلد لا أعرفه ولم أزره من قبل وحرصاً على رصيدى المتواضع من الفرنكات التى لا تتجاوز الألفين والتى قمت بتغييرها قبيل سفرى - ملحوظة : كان الفرنك وقتها يعادل 18 قرشا مصرياً - وبعد أن طال بى التفكير  تذكرت أن لدى رقم تليفون أحد اصدقائى وجيرانى فى مصر كان قد إستقر به المقام فى باريس منذ وقت طويل لإعداد رسالة الدكتوراه فى جامعة السربون ( حالياً يشغل منصب عميد كلية الحقوق فى أحد الجامعات المصرية ) كنت أحتفظ برقم هاتفه على سبيل الإحتياط لكن الموقف الذى أنا بصدده إضطرنى الى ضرورة الإستعانة به رغم المرارة الشديدة التى ذقتها والجرح الغائر الذى سببه لى الأخ الذى تقابلت معه فى مارسيليا عند بدأ الرحلة ..لكنى أقنعت نفسى بضرورة الالتزام بمبدأ حسن النية وإفتراض أن هناك أناس طيبون - كما فعل معى الأخوة المغاربة -..... أخرجت رقم الهاتف من أجندتى وسارعت بالإتصال به فلم أجده ولكن بعد عدة محاولات رد على ونصحنى بأن احجز بطاقة القطار على محطة (جار دى نورد)  كما وعدنى بأنه سيكون فى إنتظارى عند الوصول ...
 حينئذ حجزت التذكرة وصعدت القطار وبحثت عن رقم مقعدي فوجدته وجلست بجوار النافذة ، لفت نظري وجود عبارات باللغة العربية مكتوبة على سطح المقاعد الجلدية بطريقة (الشخبطة)، منها مثلاً ( للذكرى الخالدة....) ، و ( ياجالس في هذا المكان صلي على النبي العدنان....الخ , وكان من الواضح أن كتبة العبارات من الجنسيات العربية مما أثار في نفسي النفور والتقزز والانزعاج من تلك الشخبطة والتي ان دلت على شيء فإنما تؤكد على تصدير ثقافة التفاهة التي عهدت في بعض الأغبياء من شعبنا العربي الى دول أخرى أكثر منا تطورًا ، حاولت أن أمحو تلك العبارات فلم أستطع.
تحرك القطار، ،، لفت انتباهي أن المسافرين معي على القطار – وأغلبهم من الفرنسيين- يشغلون وقت الرحلة بقراءة الصحف والمجلات أو الروايات والكتب المختارة ، ولا يوجد إطلاقًا أحد منهم لا يشغل نفسه بشيء إلاه العبد لله الذي التصق بنافذة القطار سعيدًا بالمناظر الطبيعية الخلابة التي تمر أمامي والتي لم أشاهدها من قبل إلا في المجلات الأجنبية
تذكرت حال القطارات في مصر بالمقارنة مع سفينة الفضاء الأرضية( القطار)، حيث معظم نوافذ قطاراتنا محطمة الزجاج ، وحيث نادرًا ما تجد فيها مقعدًا سليمًا أو معافى البدن أو خاليا من المسامير أو بقايا زيت او شحم وحيث الركاب الذين لم يسعدوا أو يفوزوا بمقعد فتراهم يمتطون اماكن وضع الحقائب متدلية أرجلهم فوق رؤوس الجالسين على المقاعد من المسافرين وحيث صرخات بائعي السلع المختلفة من العصائر المثلجة والامشاط والغلايات والمجلات القديمة فضلاً عن صور دراماتيكية تتمثل في صور بشعة للمتسولين ممن فقدوا أحد أعضاء أجسادهم وهم يجبرونك على مشاهدتهم على تلك الصور ليرق اليهم قلبك وتجود بما فيه النصيب...أو امرأة تجر خلفها بعض الأطفال – المستأجرين- عراة الثياب لكي تشفق عليهم بحسنة قليلة لكي تمنع عنك( بلاوي كثيرة)،.... مؤكد أن الفارق كبير بل وشتان بين قطارات اوروبا و  (قطاراتنا التي عفى عنها الزمن
أفقت من تأملاتي وعيني شاخصة على الطبيعة الساحرة من نافذة القطار، لأفاجئ بتوقف القطار والاعلان عن وصوله الى محطة ( جاردي نورد) فى باريس .
نزلت الى ساحة المحطة الشاسعة لأكتشف ان فيها اكثر من سبعة مخارج لمدينة باريس، وأنه علي ان أحدد مسبقٌا أي اتجاه منها سيؤدي الى العنوان المطلوب أو المكان الذي سأجد فيه صديقي،
استعنت بالله وخرجت من بوابة اعتقدت أ نها هي المقصودة لكثرة عدد المسافرين الخارجين منها وحين خرجت من المحطة وجدتني في موقف لاأحسد عليه فهناك كم هائل من البشر بحيث يصعب علي التعرف على صديقي الذي لم أره من مدة طويلة،، وقفت في وسط ميدان المحطة بحيث أبدو ظاهرًا لمن يبحث عني وظللت على هذا النحو لأكثر من ساعة حتى فوجئت بمن يطرق كتفي من الخلف مناديا علي
-أبو الفيز في باريز؟
كان لقاء حارا مع الرجل الذي لم اره منذ مدة طويلة وقد جرى بيننا- ونحن في سيارته- حوارًا أكثر حرارة عن الأيام الخوالي في مدينة ( الزقازيق)، وعن الأصدقاء والذكريات.....الخ
وبعد أن وصلنا منزلة وتناولنا العشاء كان من الضرورى أن أرتاح قليلاً بعد رحلة إستغرقت أربعة ساعات .. بعدها نزلنا سوياً للتنزة فى شوارع باريس وكان من الطبيعى أن يكون المكان الأول هو شارع الشانزليزية الذى دائماً مانسمع عنه وفى الحقيقة كان إنبهارى وإندهاشى ليس من المكان ذاته فقط وإنما بهذا الحجم الهائل من البشر من شتى أنحاء لعالم هذا فضلاً عن المنازل والبيوت التاريخية العريقة التى مازالت تحتفظ بألوانها الحقيقية الباهتة منذ قرون مضت , هندسة معمارية رائعة تبعث على النفس راحة ,
جلسنا على أحد المقاهى فى الشارع  لنرتاح قليلاً ثم بدأنا تكملة الجولة كان خلالها صديقى يشرح لى اسماء الأماكن ونبذة تاريخية عنها حتى إقتربنا من منتصف الليل فعدنا بالسيارة رغم انى كنت أتمنى فى قرارة نفسى أن أركب المترو الذى سمعت أنه يسير تحت الأرض والذى كان يمثل فى خاطرى أحد أعاجيب الزمن فى ذاك الوقت.. ابلغت صديقى برغبتى فوعد بأن يكون ركوب المترو هو بداية رحلتنا فى الصباح
فى اليوم التالى كنت شديد الحماس لرؤية - برج إيفل - وقوس النصرو كاتدرائية نوتردام والمسلة المصرية بميدان الكونكورد وبعض من المعالم التى كنت أسمع او أقرأ عنها فركبنا المترو حتى وصولنا الى محطة - جورج سانك - ومن هذه البقعة بدأنا المسير على الأقدام حيث الأماكن المذكورة قريبة من بعضها .. تجولنا كثيراً وقضينا وقتاً ممتعاً وكان علينا تناول الغذاء فإصطحبنى الصديق الى مطعم المدينة الجامعية الذى تتسع صالته لإستيعاب أكثر من الفى طالب من جميع جنسيات العالم ممن يدرسون فى باريس فى شتى أنواع العلوم .. تناولنا الغذاء وعدنا الى المنزل وهناك جرى بينى وبين صديقى حوارهو فى الحقيقة جوهر سفرى الى فرنسا وهو عن كيفية التسجيل فى جامعة السربون للتمهيد الى إعداد الدراسات العليا فى القانون وحقيقة لم يبخل على الرجل بالمعلومات المطلوبة وأمدنى بكتيبات الجامعة التى تعنى بكيفية الإلتحاق والمستندات المطلوبة ومواعيد التسجيل وشروطة وغير ذلك من المعلومات الضرورية .. وهنا أتوقف عن الكتابة حيث سأبدأ - إن شاء الله - فى الحلقة القادمة عن

ذكرياتى فى الجامعة .
متحف اللوفر وبرج ايفل - اضغط للتكبير









  

04 أكتوبر 2009

أبو الفيز فى باريز - ( 1) بداية الرحلة : مدينة مارسيليا فى جنوب فرنسا





 لم يكن سفرى الى باريس فى مطلع عام 1980 إلا رغبة فى تحقيق الذات بعد أن فشلت فى طلب يد ( بنت الجيران ) حيث كان الرد قاسياً وعنيفاً لم أتحمل تبعاته وآثارة فقد كان سبب الرفض المباشر هو عدم التكافؤ فى المستوى الإجتماعى فأنا من أسرة فقيرة وهم من اسرة ثرية تمتلك الكثير من الخيرات .. لم تكن حدود العلاقة بينى وبين بنت الجيران تسمح بالتمرد على التقاليد لا من جهتى ولا من جهتها فقد نشأنا فى مجتمع محافظ له قوانينة الخاصة ,كما لا تملك هى حق الإعتراض على قرار الوالد الجائر ولا حتى كسب عطف الأم للتأثير على الوالد بمراجعة القرار فلا حول لها ولا قوة . إرادة فولازية دفعتنى الى إثبات الذات أو بتعبير آخر الرغبة فى الإنتقام لنفسى من هذا المتسلط المغرور الذى بنى ثروته من عرق الفلاحين بأبخس الأسعار .. كان السفر الى اوروبا مغامرة يشوبها الخوف من المجهول سيما وأننى سأخلع نفسى من وطن لم أعرف فى أرجائه إلا بلدتى ( الزقازيق ) وجذء محدود من ( القاهرة ) حيث كانت جامعتى التى تخرجت منها , أما غير ذلك من أماكن فإن العبد لله لم يكن يعلم منها الكثير بحسبانى قروياً لم تتح له فرص الإنغماس فى مجتمع المدينة ومفاتنها التى تسلب العقل .. أهكذا أنتقل فجأة وفى مجرد ساعات الى شوارع باريس وأنا الذى أجهل حتى شوارع القاهرة والأسكندرية وغيرها من محافظات مصر ؟ حقاً كانت التجربة - كما قلت - مغامرة لكن مغامرة تساندها إرادة كان من الصعب أن تنمحى من ذاكرتى كلما قفز الى خاطرى موقف الرجل الذى نوهت عنه ..
كانت قيمة التذكرة حينئذ على خطوط (إير فرانس ) ذهاباً وإياباً فقط (220 ) جنيه مصرى , ولم يكن هذا المبلغ بالقليل الأمر الذى دعانى الى جمعه بطرق مختلفة كان من ضمنها الأقتراض ,, أعددت العدة للسفر بعد ترجمة جميع مستنداتى وأوراقى الى اللغة الفرنسية وبعد توثيقها من الجهات المختصة وتوكلت على الله تعالى وبدأت الطريق .
ميناء مرسيليا البحرى

هبطت الطائرة فى مطار ( مرسيليا ) وهى مدينة تمثل أهم موانىء فرنسا البحرية ( الصورة المرفقة أعلاة )..... لم تكن لى وجهة محددة سوى ( رسالة ) من صديق وزميل مصرى موجهة الى أحد المصريين بفرنسا ( فى مارسيليا) مضمونها ( الأهتمام بحامل الرسالة ) .. بحثت عنة بصعوبة بالغة فى العنوان المسجل على الرسالة فأخبرنى أحد الأخوة ( المغاربة ) بأنه يعرف الشخص المقصود وبأنه عادة يعود آخر الليل الى منزلة .. لم أجد بداً من أن أنتظرة سيما وأنا لا أعرف غيرة فى مدينة شاسعة .. كان الليل قد بدأ الزحف على المدينة فجلست على أحد المقاعد فى حديقة عامة يعلوه مصباح كهربائى وأخذت فى فتح حقيبتى الصغيرة لأقتات ببعض ما أعدته لى أمى العزيزة من بعض الأغذية المجففة .. تناولت حمامتين مشويتين وبعد أن فرغت من الأكل لم يطاوعنى قلبى أن ألقى بعظام الحمامتين فى سلة المهملات لكونهما من رائحة أمى .. تساقطت بعض الدمعات من عينى ثم لففت العظام فى كيس بلاستيك وأودعته الحقيبة .. ولكى لا أمل من الانتظار فقد أخرجت جريدة ( الأهرام المصرية ) من الحقيبة لإيهام نفسى بأنى مازلت فى حالة إتصال معنوى بمصر .. المكان حولى يعج بالأطفال الصغار وكأنهم أشبه بالملائكة , يلعبون فى براءة تامة .. وحين إتشح ليل المدينة بالسواد القاتم قمت من مقعدى وتوجهت الى الصديق الذى لم تسبقنى به أى معرفة , وحين وصلت الى بيته وجدته مضاءاً فحمدت الله على وصولة .. طرقت الباب فإذا بى أجد شخصاً يبدو من هيئته أنه فى حالة تناول طعام .. عرفته بنفسى وبأنى حامل لرساله من أحد أصدقائه فى مصر فقال لى تفضل بالدخول وهو مولينى ظهرة وأنا أتبعه الى الداخل .. لم أتسرع بالحكم على الرجل بقلة الذوق ولكن جلست ثم ناولته الرسالة .. كان يقرؤها وهو مستمر فى تناول الطعام دون أن يدعونى الى مشاركته .. وجدت نفسى فى حالة إحتقان داخلى فليس هذا المسلك من طبائعنا كمصريين .. ثم وجدته فجأة يقول :
- هو يوسف فاكرتى وزير العمل فى فرنسا ؟
فى تلك اللحظة لم أتمالك غيظى المكتوم سلفاً فقلت له بغضب واضح :
- صديق طلب منى توصيل رسالة الى صديقة فى فرنسا .. هل سعى اليك الى توظيفى ؟ .. يبدوا أننى أخطأت الشخص والعنوان ..
خطفت الرسالة من يده وقمت بتمزيقها أرباً ورميتها على منضدة الطعام التى يأكل عليها وخرجت من البيت لاعناً أشباه هذا الرجل .
خرجت الى قارعة الطريق .. لا أدرى أين اتوجه .. المكان الذى أنا فيه قرية صغيرة تسمى ( مولى جيس) لايوجد بها فنادق أو بانسيونات كما لايوجد بها حتى مواصلات عامة ( مترو أو تاكسى ) علاوة على أنه لا أحد من قاطنى البلدة سيبدى إهتماماً برجل غريب فالكل لديه بيته ومزرعته وسياراته الخاصة .. كان موقفاً لا أحسد عليه ولم تفتر عزيمتى أو يتسرب الى نفسى خوف او قلق .. عدت مرة أخرى الى مقعدى فى الحديقة عازماً أن أقضى بقية الليل عليها حتى مطلع الصبح .. لم يطل بى الوقت كثيراً وأنا فى تلك الحالة فقد مرت بى جماعة من العرب عرفت بعد ئذ أنهم ( مغاربة ) فألقوا على السلام وسألونى إن كان لدى حاجة يقضونها لى فشرحت لهم الموقف كاملاً فسمعت منهم عبارات إستياء وغضب من موقف أخينا المصرى .. إصطحبونى معهم الى حيث بيتهم وأكرموا ضيافتى ونمت فى فراشهم حتى الصباح .. شكرتهم على صنيعهم وتوجهت الى محطة القطار قاصدا باريس
.

07 يناير 2008