14 ديسمبر 2009

أبوالفيز فى باريز... الحلقة - 5 -

لم يدم بى الحال طويلاً فى العمل بالمطاعم الفرنسية كغاسل أطباق , ولم يكن هناك أدنى أمل فى الحصول على ترقية والاشتغال - مثلاً - متروديتيل أى جارسون وهو عمل أكثر رفاهية من عدة وجوه فهو يبقيك دائماً نظيفاً مهندم الثياب ويجعلك مختلطاً بالناس بصفة مستمرة بدلاً من قضاء ساعات النهار فى سرداب المطعم لا تر الا الآوانى والآكواب والشوك والملاعق والسكاكين , علاوة عى ارتفاع الاجر بالمقارنة بغسيل الاطباق , لقد كان الحائل الوحيد هو عدم اجادة اللغة الفرنسية والتى تعد شرطاً أساسياً لتلك المهنة , لذا فقد كان هاجس البحث عن عمل آخر بديل أقل جهداً ويحفظ للمرأ ماء وجهه وكرامته وأن يجد متسعاً من الوقت للتحصيل والدراسة وهى الاهم فى رحلتى .
 كان الاشتغال مع أصحاب أعمال وموظفين عرب هو الحل المؤقت نتيجة لعدم اتقان الفرنسية من ناحية ولأننى لم أكن على دراية كافية بالمناخ الأوربى وكيفية الإندماج والتأقلم والإنصهار مع المجتمع الفرنسى بوجه خاص من ناحية أخرى ، لذا فقد مارست العديد من الأعمال الحرفية التى لا يشترط لادائها إستعمال اللغة إلا بالقدر اليسير وهذا كان متوفراً فى صورة إلتقاط وحفظ العبارات الشائعة والأكثر تداولاً فى المجتمع والتى من خلالها يستطيع المرء أن يقضى حوائجه بسهولة ، كان من ضمن تلك الأعمال ( بيع الخضروات والفاكهة ) فى الأسواق الفرنسية ( مارشية ) خاصة فى المناطق والأحياء الشعبية التى يغلب فيها الطابع العربى والإفريقى كأسواق ( بل فيل ) و( باربيس ) و ( لاشابيل ) و (مونتروى ) وغيرها حيث من السهولة بمكان التعامل مع أصحاب الأعمال الذين أغلبهم من اليهود التنونسيين أو الجزائريين
، كذلك فقد كان من بين الأعمال التى كان لى حظ العمل فيها هى ( الصبغ ) أو باللغة المصرية ( نقاش ) وباللغة الفرنسية ( بانتير ) يندرج تحتها كافة أعمال الديكور الخارجى والداخلى للمبانى والشقق السكنية من دهانات ولصق ورق حائط وموكيت وأنوه إلى أن طبيعة هذا العمل قد لاقت هوى فى نفسى لانها ترجمة حقيقية لهواية الرسم التى أمارسها بشغف وإجادة .

 لكننى أذكر واقعة أليمة إضطرتنى إلى ترك هذا العمل وعدم العودة إليه مرة أخرى فقد حدث قيام أحد المصريين المتخصصيين فى تركيب ( البلاتوه ) أى العربة المتحركة التى تجهز على واجهة المبنى وتستخدم فى طلاء الواجهات الخارجية نزولاً وطلوعاً بطريقة آلية ،ولخطأ فى تثبيت البلاتوه تثبيتاً جيداً فقد سقط قتيلاً من الطابق الخامس مما جعلنى
 أقرر فوراً  الإبتعاد عن هذا العمل والبحث عن عمل بديل ، لكن قبل أن أغادر هذه الجزئية من الاحداث فإن موقفاً خاصاً قد قفز من ذاكرتى الآن على الأوراق أبهجنى وسرنى وخفف عنى فجيعة موت زميل فى العمل على النحو سالف الذكر ، فلقد حدث وأنا على تابلوه العمل فى صبغ واجهة أحد المبانى وفى الطابق الرابع فوجئت بإحدى السيدات الفرنسيات تحيينى قائلة ( بون كوراج ) بمعنى يقابل  التعبير العربى ( يعطيك العافية ) فإبتسمت لها وشكرتها لكن فضولها كان يسبقها فقد سألتنى ( فو ذيت آراب ) ؟ بمعنى هل أنت عربى؟ فقلت نعم فقالت ( فينى فوار) أى تعالى سأريك شيئاً ,إعتقدت للوهلة الأولى أن أمراً أخلاقياً سيحدث خاصة وأن مساحة الحرية الشخصية الاوروبية متسعة للحد الذى يمكن فيه للمرأة أن تدعوك مباشرة لأمر ما دونما خجل أو إستحياء خلافاً لعاداتنا الشرقية لكن إعتقادى لم يكن فى محله فقد فاجأتنى السيدة بأنها من أشد المعجبات بالحضارة الفرعونية القديمة وأنها سعيدة غاية السعادة أن تكون فى حضرة أحد أحفاد الفراعنة القدامى  كما أصرت على مشاركنها قدح من القهوة  , إصطحبتنى من يدى بمنتهى  العفوية وأدخلتنى غرفة تحتوى على مكتبة ضخمة تحتل ثلاثة جدران تتضمن عدة أركان مختلفة تحت مسميات توضح عنوانا لكل ركن فمنها قسم للملوك من الفراعنة ونبذه مختصرة عن عمرة وأهم إنجازاته ورقم العصر الذى عاش فيه وقسم آخر يضم كتباً عن أهم المعالم الاثرية فى حضارة الشرق وعناوين أماكنها وقسم يحتوى على أرشيف خاص بألبومات صور تذكارية للسيدة فى أفواج سياحية للمناطق الاثرية فى مصر وركن خاص ببعض التماثيل والتمائم والآثار الفرعونية كما لاحظت العديد من لوحات أوراق البردى ومرسوم عليها صور فرعونية .. فى الحقيقة شعرت بينى وبين نفسى بالخجل والعار لمعرفة الاوروبيين تاريخنا وحضارتنا القديمة أكثر مما نعرف نحن فقد كانت السيدة تشرح لى بحماس شديد محتوى المكتبة وكأنها ولدت فى الاقصر او بلاد النوبة فى مصر , من هنا تأكدت وعرفت أسباب تخلفنا وأسباب نهضة الغرب .. لقد كان لهذا اللقاء العابر أثر بالغ فى نفسى وعرفت قيمة الوقت وقيمة القراءة والاطلاع وتنوير العقل كما تعلمت من الشعب الفرنسى أن الغذاء ليس هو ملىء البطون بل إشباع الروح.
والى حلقة أخرى إن شاء الله تعالى.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

nice blog & topics.. keep going