26 يناير 2010

: أبوالفيز فى باريز... الحلقة - 6 - أنا والملياردير اليهودى


لمحة : فى باريس .. بإمكانك أن تر العديد من المتناقضات , فهى مدينة ترضى كل الأذواق وتلبى كافة الإحتياجات وتتعامل مع جميع المستويات الإنسانية والإجتماعية , وفيها ترى المبانى الشاهقة والقصور الفخمة وناطحات السحاب كما تر البيوت المتواضعة ذات الدرك الأسفل من البناء للحد الذى لا تتصور فيه أن بيتاً من تلك البيوت فى عاصمة من أشهر عواصم العالم تحضراً ورقياً يقبع وسط أطنان من الزبالة والقاذورات ومن السهولة بمكان أن تجد أحياء كاملة تغوص فى مستنقعات تسكنها الفئران والحشرات وغالباً ما تسكنها الجاليات الأجنبية الفقيرة كالعرب والأفارقة , ولعل هذا التناقض هو مايميز مدينة باريس بإعتبارها مدينة تجمع كل المتناقضات لتصبح بذلك أولى عواصم العالم جذباً للسياحة حيث يجد زوارها فى هذا التناقض متعة خاصة تستهويهم بحسبانه غير مألوفاً لديهم ويرونه من باب الفضول الإنسانى .. إن الحياة فى باريس تنسيك كل شىء حتى وطنك حيث فيها من الإغراءات المختلفة والمتعددة ما يشغل بالك دائماً ويجعلك فى حالة من الإنبهار المستمر .. فيها حركة سريعة وفيها أنظمة عرفية تحولت الى مايشبه القانون كالمحافظة على الوقت وعدم إهدارة فيما لا ينفع وإحترام الآخر مهما كان شخصه ونظام التعامل المجتمعى فالعلاقة بين المشترى والبائع تتم من خلال أسلوب مهذب وحضارى وأنيق ولاتفارق الإبتسامة وجوههم كما أن لديهم أسلوب خاص فى تقنين إحتياجاتهم الخاصة فالفرنسى لايشترى سلعة ما إلا إذا  كانت ضرورية وفى نطاق الكمية المطلوبة كشراء أصبعين من الموز أو جذء صغير من بطيخة أو 3 أو 4 حبات فاكهة أو نصف رغيف خبز ( بان أو باجيت ) حتى لو وقف فى ( طابور) ساعة زمن .. تذكرت الآن وضعنا فى مصر حيث المعارك الضارية بين الناس أمام المخابز والجمعيات الإستهلاكية من أجل شراء سلعة ما وخاصة الخبز والدجاج فما أن يتم نشر خبر وجود سلعة تموينية شحيحة فى السوق إلا ويتدافع الناس فى سباق محموم للفوز بكم هائل من السلعة وكأنها لن تعود للظهور مرة أخرى أو توقع مجاعة آتية تحرق اليابس والأخضر .. .( إنتهت اللمحة ) .
أحداث الحلقة السادسة :
تقدمت الى قسم شئون الطلاب بالجامعة وسلمت ملف التسجيل بعد إستكمال كافة البيانات والمعلومات المطلوبة , وبعد مراجعتها من الموظف المختص أحالنى الى موظفة أخرى لقيدى ضمن المتقدمين للتسجيل والتى أعطتنى موعد مراجعة آخر لدراسة الملف وإجراء ( معادلة لشهادة الليسانس ) .. وفى الموعد المحدد لمعرفة نتيجة المعادلة فقد أخبرتنى الموظفة بأنه قد تمت الموافقة على المعادلة ونصحتنى بالتوجه الى مكتب آخر للحصول على موعد ( إمتحان التسجيل ) وعلمت أن هذا الإمتحان هو الذى سيتقرر فيه قبولى أو عدم قبولى كطالب فى جامعة السربون , كما علمت أن الإمتحان سيكون من شقين أولهما إختبار للغة الفرنسية والآخر إختبار للمواد القانونية ( شفهى وتحريرى ) ,

كان علىّ - بعد تحديد موعد هذا الإمتحان - أن أن أتفرغ تماماً لدراسة اللغة الفرنسية ( نطقاً وقراءة وكتابة ) وأن ألم بالمصطلحات القانونية وذلك بعد أن قطعت شوطاً لا بأس به فى تعلم اللغة الأمر الذى الجأنى الى الزيارات المستمرة لأصدقائى من المغاربة والتونسيين الذين تعرفت بهم خلال عملى فى الأسواق والصباغة والمطاعم وقد وجدت منهم ترحيباً كبيراً وكان هذا من فضل الله تعالى على , كانوا يساعدوننى فى تعلم اللغة ومخارج ألفاظها ومن حسن حظى أن كان أحدهم يدرس قانون مقارن فى جامعة أخرى .. وبناء على طلبى منهم فقد كانت لغة تخاطبى معهم باللغة الفرنسية وليست العربية للتمرس على إستخدامات اللغة وقواعدها.. وقبل موعد الامتحان بشهر تقريباً كنت فى مستو أفضل عما كنت فى اللغة الفرنسية مما أشعرنى ذلك ببعض الثقة فى نفسى ومنحنى أملاً فى إمكانية إجتياز إمتحان التسجيل المرتقب

أما فيما يتعلق بالعمل فبعد أن تركت المطاعم وأسواق الفاكهة والخضار وغيرهم من الأعمال المتواضعة والمتعبة فى ذات الوقت وتوقفت زمناً عن العمل للتفرغ للدراسة معتمداً على مبلغ قمت بإدخارة من رواتب العمل فقد حدثت بعض التغييرات فى الحكومة الفرنسية بأن تولى ( ميتران ) رئاسة جمهورية فرنسا وعقب ذلك خرجت مظاهرات عديدة فى كل أرجاء فرنسا تطالب بطرد الأجانب من البلاد بحجة منافستهم فى سوق العمل ووجود أكثر من ثلاثة ملايين فرنسى على الأقل متعطلين عن العمل وكانت اللافتات والشعارات تحمل جملة ( فرنسا للفرنسيين ) , أذكر أن الرئيس ميتران قد ألقى خطاباً فى اليوم التالى شرح فيه موقف المتعطلين عن العمل بأن الحكومة الفرنسية تمنحهم رواتب شهرية تفى بحاجتهم الضرورية وبأن أغلبيتهم يرفضون العمل فى الأعمال الخدمية التى يؤديها الأجانب وفى حالة الإستغناء عن هؤلاء الأخيرين ستكون مدينة باريس فى حالة فوضى كما زاد ميتران من حالة غليان الشارع الفرنسى بأن أصدر مرسوماً بمنح الأجانب المقيمين فى فرنسا إعتباراً من تاريخ ... الى تاريخ ... حق تصحيح أوضاعهم ومنحهم حق العمل الشرعى فى البلاد تمهيداً لمنحهم ( كارت سيجور أى الإقامة الشرعية ) و( كارت أرتيزان أى حق ممارسة التجارة ) , ولقد كان من حسن حظى أن هذا المرسوم ينطبق علىّ تماماً لكن لكى أتمكن من تصحيح وضعى كان لابد من البحث عن صاحب عمل يقبل إشتغالى لديه وأن يحرر لى عقد عمل يتوافق وأحكام المرسوم سالف الذكر و يتم توثيقة من الجهات الرسمية والأهم من هذا أن يقوم صاحب العمل بدفع حصته من التأمينات الإجتماعية بنسبة 75 % من الأجر الأساسى المحدد فى العقد وهذه الشروط كانت من الصعوبة بمكان حيث من النادر أن يوافق صاحب عمل بها إلا إذا كان فى أمس الحاجة الى وظيفة العامل ومن هنا فقد قل حماسى للمضى قدماً فى تلك الإجراءات لقناعتى بأننى لست على قدر طموح رجال وأصحاب الأعمال فى فرنسا بسبب عدم تميزى أو تخصصى فى عمل ما يساعدنى فى كسب ود هم أو العمل معهم . لكن لم أفقد الأمل وإن كان ضئيلاً فى البحث عن جهة أو صاحب عمل يقبلنى بالشروط المذكورة آنفاً .. كنت أكثر الدعاء فى صلاتى أن يوفقنى الله تعالى فى رحلتى وأن لا أعود الى وطنى إلا فائزاً وناجحاً وكنت أتذكر مقولة هاملت فى مسرحية شكسبير ( كن أو لا تكن ) حتى حانت واقعة غريبة فقد قادتنى الصدفة الى التعرف على شخص ( يهودى ) والمدهش فى الأمر أن مكان اللقاء كان فى ريسبشن السفارة المصرية فى باريس حيث كنت أنتظرالدكتور / عبد الأحد جمال الدين وقت أن كان مستشاراً ثقافياً فى السفارة وهو حاليا ذو منصب رفيع فى مجلس الشعب وقد تقلد عدة وزارات من قبل وكان سبب زيارتى له هو طلب منحة دراسية حكومية  ..المهم كان الرجل اليهودى  بدين جداً يصل وزنة الى 250 كيلوجرام على أقل تقدير .. ملامحة أشبه بشاعرنا الراحل / صلاح جاهين , سألنى عن موعد وصول السفير فأجبته بعدم العلم , عاود السؤال إن كان لدى ( ولاعة سجائر ) فأشعلت له سيجاره , مرة ثالثة سأنى أنت مصرى فأجبته بنعم فسكت .. لاحظت أن الرجل بحاجة الى أن يحادث أحداً حتى لايمل من الإنتظار فبادرته بالكلام : أنت مصرى ؟ فأجاب : لا .. سألته مرة أخرى : لكنك تتكلم اللغة المصرية !!! فأجاب : أنا يهودى !!! شعرت بإنقباض سريع فى بادىء الأمر فكيف لهذا اليهودى أن يدخل السفارة المصرية ؟ ومن سمح له بذلك ؟ وتذكرت الحواديت والتعاليم المصرية التى تربينا عليها منذ الصغر بأن اليهود أعداء المسلمين وبأننا يجب أن نكرههم ونقتلهم إذا صادفناهم .. قطع علىّ الرجل صمتى بإبتسامة وكأنه قد علم ما أفكر فيه ثم قال : أنا عشت فى مصر 21 عاماً فى حارة اليهود ثم طردنا عبد الناصر وكل الجالية اليهودية فى أعقاب ثورة 1952 فهاجرت مع أسرتى الى الولايات المتحدة الأمريكية  ثم إانتقلنا الى فرنسا وأقيم هنا حتى الآن .. سألته : وماسبب وجودك فى السفارة ولماذا تريد مقابلة السفير ؟ فأجاب بأن هناك دعوى قضائية رفعتها على السلطات المختصة فى مصر بشأن طلب التعويض عن ممتلكاتنا وقد إستدعانى السفير لإستيضاح بعض المعلومات , فى تلك اللحظة حضر سكرتير أول السفارة وطلب من مسيو / حزان مرافقته الى مكتبه فطلب منى الأخير إنتظارة حتى يعود ثم ماهى إلا دقائق حتى رأيتة خارجاً من المصعد ليبلغنى بإنتهاء المقابلة وبأنه جائع ويطلب مرافقتى له لتناول ( فول وطعمية ) فى مطعم مصرى مشهور بأحدى مناطق باريس , رحبت بالفكرة لأننى كنت أشعر بالجوع فعلاً ولأننى إشتقت الى تناول وجبتنا الشهيرة فى مصر ,
 وقفت السيارة أمام مطعم تحمل لافتتة ( كليوباترا) فدخلنا وهيأ لنا أحد العاملين ركناً خاصاً فجلسنا ثم فوجئت بمدير المحل وثلاثة من العاملين يأتون لتحية الرجل ويبدو أنه كان كثير الحضور للمطعم أو ( زبون مشهور ), قال لأحدهم : مش عاوز طعمية ( فلافل ) بزيت محروق ..حط زيت جديد , أثارت هذه الجملة جو من المرح ولكنى كنت أشرد من حين لحين وأحاول فهم هذا الرجل فهو مصرى اللغة والسلوك بل هومصرى إبن بلد ولا تفترق تصرفاته عن تصرفات أى مصرى رغم كونه يهودى الجنسية , قطع شرودى صوت عبد الحليم حافظ ينبعث من كاسيت المطعم وكانت الأغنية هى ( سواح ) التى يحب الرجل سماعها دائماً - كما علمت منه فيما بعد - ثم سمعت صاحب المحل يقول للرجل : إيه رأيك ياباشا ؟ فرد عليه الرجل : شكراً .. حضرت صينية كبيرة وعليها عدة أطباق تحتوى على الفلافل المصرية والفول المدمس والمخللات وخلافة ورائحة الزبد البلدى تفوح منها فاخذ لعابى يسيل وماهى الا لحظات حتى هجم كلانا على الصينية وكأننا لم نذق طعاماً منذ شهور .. دفعنى الفضول لسؤال الرجل : ماذا تعمل فى باريس ؟ وكانت إجابته أشبه بالصاعقة فلم أكن أتوقع مثل تلك الإجابة بل ولم أكن أتخيل إطلاقاً أننى فى صحبة ملياردير يساهم فى إقتصاد فرنسا فقد كان الرد : أنا صاحب ثلاث مصانع لتسويق اللحوم وتصديرها لعدة دول خارج فرنسا .. لم أغير من لهجة حديثى مع الرجل ولم أبد دهشة ظاهرة وإن كانت تعصرنى عصراً من داخلى فأنا ( عاطل ) عن العمل وفى حضرة عملاق من عمالقة الصناعة فى فرنسا فإستغربت من تواضعة الجم لتناول طعامة فى مثل هذا المطعم المتواضع ومرافقة إنسان بسيط مثلى .. قام مسيو حزان من مقعدة بصعوبة وألقى فى يد عمال وموظفى المطعم كمية من النقود على سبيل ( البقشيش ) ثم خرجنا معاً .. كان يجب علىّ حينئذ أن أحفظ ماء وجهى بتوديعة بعد إنتهاء دعوة الغذاء لكن شيئاً ما قد حال بين ذلك وبين رغبتى الكامنة فى البقاء معه أو سؤاله عن فرصة عمل لكن كبريائى قد حال دون ذلك خاصة وقد كنت فى منتهى الشياكة وكان مظهرى العام يدل على أنى احتل وظيفة مرموقة .. تبادلنا - أمام السيارة - أرقام هواتفنا طالباً منى أن أزورة فى بيته او أحد مصانعة قريباً وعرض على توصيلى الى بيتى فإعتذرت بحجة الذهاب الى مكان ما وإن كنت قد ندمت فيما بعد على إعتذارى فلربما تطرق الأمر للحديث عن فرص العمل . وإفترقنا 

 .

الى لقاء آخر فى حلقة جديدة

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

حضرتك بقالك كتير اوي متوقف عن الكتابة .. انا مستني الحلقة ال 7 بقالي سنتين

غير معرف يقول...

بقالي سنتين مستني حلقة جديدة !!